لا إله إلا الله، رحل أبونا خيرى شلبى قبل أن تكتمل فرحته معنا برؤية مصر التى أحبها وهى تختار عَدَلها بنفسها، رحل وهو سعيد بفجر الحرية الذى شهدته مصر، رحل وهو قلق على المخاض الذى تشهده مصر، سعيا لاكتمال الحلم الذى عاشت أجيال بأكملها من مثقفى مصر تناضل من أجله. يصعب علىّ أن أرثى أبا وصديقا وكاتبا عظيما كعم خيرى، لذلك أستعين بسطور كتبتها عنه فى حياته، وكان يحبها كثيرا، سائلا الله أن يقبله فى جنة الخلد، ويجزيه خير الجزاء عن كل سطر أمتع وأفاد وأغنى به الملايين من قرائه فى العالم العربى.
«.. كان خيرى شلبى أديبا، نسيجا وحده، عالمه مِلْك يمينه، لم يتأثر فيه بأحد ولم يقلد مشروعا غربيا ولم يجر وراء صرعات أدبية تبعده عن القارئ وتنسيه غوايته الأثيرة، غواية الحكى. كان مع كل ذلك وفوق كل ذلك شخصية إنسانية فريدة علمتنا كيف يكون الأديب وفيا لعالمه الذى يكتب عنه وله، وكيف يعزل نفسه عن واغش الحياة الثقافية وكيف يحترم قلمه وفنه منذ أن كان أديبا مكافحا ومغمورا وحتى أصبح ملء السمع والبصر، فلا تكون له شلة نقدية أو قعدة أنصار وموالين، ولا يعرض إبداعه على أحد مستجديا تقديرا أو تقييما، يجلس فى الطربة التى يكتب فيها من زمان، متفردا بكآبته وصبابته وعنائه، مفضلا صحبة أموات المقابر على أموات التجمعات الثقافية، ليكون نموذجا للقدرة البشرية على الإنجاز دون صخب أو طنطنة، وليحقق بمفرده مسيرة روائية حافلة تحتاج إلى رسائل دكتوراه ومؤتمرات أدبية لرصدها وتحليلها واستطعامها.
وقعت فى هوى خيرى شلبى منذ تلك اللحظة التى قرأت فيها عمله الفذ (موال البيات والنوم) الذى لن يعرف قيمته من لم يجرب عناء الفقر والبحث عن مأوى ومحاولة الهروب من مقصلة هذه المدينة اللغز القاهرة، عندما بدأت فى التعرف على زملاء دفعتى فى كلية الإعلام لم أصدق نفسى عندما عرفت أن زين ابن الأديب الكبير خيرى شلبى زميل لنا فى الدفعة، سعيت إلى التعرف عليه ولزقت له فى الرايحة والجاية لعله يأخذنى لزيارة والده، ويبدو أن عم خيرى وقف فى طريق صداقتى بزين ومنعها من أن تكون صداقة حميمة، فبالتأكيد اتخنق زين من سؤالى له كل يوم عن أبيه وطقوسه فى الكتابة والحياة وشخصيات روايته، وهى أسئلة تليق بناقد فى مجلة الكرمل لا بزميل دراسة وشباب من دور بعض، حتى جاء اليوم الذى قرر فيه زين أن يستريح من غلاستى وحمل لى رواية (الوتد) مكتوبا عليها إهداء متعجل، لعل عم خيرى كان يسبنى وهو يكتبه لأن زين كان واقفا على دماغه حتى يكتبه، قرأت الرواية القصيرة المكيرة البديعة وأنا أجلس على أرضية متسخة فى ركن من أركان قطار درجة ثالثة حقير، كنت مسافرا فى ليلة شتوية عائدا إلى الإسكندرية لكى آكل لقمة بيتى وأنام نومة نظيفة ولو لليلة، توقف القطار عند بركة السبع لسبب غامض لأكثر من ثلاث ساعات كنا فيها سجناء العربيات المفتوحة من كل ناحية للمطر الغزير والبرد الزمهرير، ومع ذلك لم أشعر بشىء من كل ذلك، فقد كانت (الوتد) خير جليس لى فى تلك الليلة الليلاء، توحدت مع عالمها السحرى وعشقت ناسها واتخذتهم ونسا ودفئا، قبل أن أهجرهم لأقع فى هوى حسن أبو ضب بطل رباعية عمنا خيرى المستحيلة، الذى هجرته بدورى إلى هوى العراوى وموت عباءة ورحلات الطرشجى الحلوجى والأوباش والشطار والعمل الأعظم والأحب إلى قلبى (وكالة عطية). كنت كلما قرأت رواية لعم خيرى زدت فى رذالتى وتطفلى على زين الذى زهق منى وقرر أن يصحبنى لزيارة أبيه، لأكتشف أننى على فقرى أغنى من زين، فأنا على الأقل أسكن فى بيت، أما زين فهو وإخوته يا عينى يسكنون فى مكتبة لو كانت قد رأتها ماما سوزان لصادرتها وأطلقت اسمها عليها، ورغم مرور السنين فما زال ماثلا فى ذهنى وجه عم خيرى وهو ينظر بفخر إلى آلاف الكتب التى تملأ جدران البيت وأرضه وسقفه، لدرجة أنه وهو يحدثنى عن وجود شقة أخرى بها كتب أكثر من هذه بكثير، كل ما كنت أفكر فيه كيف أجد طريقة لسؤاله عن عنوان الشقة الأخرى التى كنت قد بدأت أفكر جديا فى سرقتها.
لم تتكرر زياراتى لعم خيرى كثيرا على مدى سنوات معرفتى به، فانهماكه فى إنجاز مشاريعه وأحلامه لا يجعل لديه وقتا للمتطفلين وحرامية الكتب من أمثالى، لكننى تعلمت منه كثيرا وأحببت عزة نفسه ونأيه عن كدابين الزفة الثقافية وإخلاصه لما يجيده واتساقه الشديد مع نفسه واحتمائه بتلك الأسرة الدافئة التى أحببتها بمجرد رؤيتى لها متخذا من زوجته وأم عياله السيدة الطيبة الجميلة الحنون وتدا يستند إليه فى مسيرته الحافلة، ويشيل عنه همّ العيال».
قبل أن يرحل عم خيرى بخمس سنوات وجهت نداء إلى مسؤولى وزارة الثقافة كتبت فيه مناشدا «استصدار قرار باستدعاء الكاتب الخارق خيرى شلبى إلى مقر المجلس والتحفظ عليه فى مكان أمين لأجل غير مسمى مزود بكاميرات سرية مع توفير جميع وسائل الرفاهية اللازمة له طوال فترة احتجازه وعدم السماح له بمغادرة المكان إلا بعد أن يودع شفهيا نسخة من كل الكنوز التى تحتكرها ذاكرته، بادئين أولا بمئات القصائد المبهرة لشعراء عمالقة مجهولين لم نسمع لهم ولا عنهم، ثم بعد ذلك تتم محايلته بالذوق وبالعافية إن لزم الأمر ليحكى كل ما برأسه من دوائر معارف مذهلة عن أدق تفاصيل حياة الريف المصرى وأساطيره وسيره الشعبية، ودخانيق القاهرة التى لا يعلمها إلا هو وثلة من الذين ملكتهم نفسها عن طيب خاطر، فضلا عن حكاياته الكاشفة الساحرة التى لا تنفد عن كواليس الحياة الثقافية والأدبية فى مصر، مع التغاضى عن إجباره على نقل ما قام بتحصيله من معارف أدبية وتراثية وعلمية طوال عمره المديد، لأن تدوين ذلك سيتطلب سنين بعدد سنوات عمر عم خيرى التى لم يكف فيها لحظة عن التهام المعرفة، سنكون واقعيين لأن الطمع يقل ما جمع. باختصار شوفوا لكم حلا فى هذا الرجل العظيم الذى لا يكف عن إدهاشى أبدا. كلما ظننت بحكم اقترابى الحميم منه ومن أسرته الجميلة وبحكم قراءتى لكل ما نشر حاملا اسمه أننى حاصل على العالمية فى خيرى شلبى، تجمعنى به جلسة خاصة أو عامة فأكتشف أننى يا دوبك فى إعدادى خيرى شلبى، أسأله بحماس مندفع (ماكتبتش الكلام ده ليه يا عم خيرى)، يرد علىّ دائما وهو يغالب حسرته (عندى مشروع أكتبه بعد ما أخلص الرواية اللى فى إيدى)، أتحسر لأننى لم أحضر القعدة بكاميرا فيديو أو كاسيت لكى لا يضيع كل ما عشته من سحر دون تدوين، بدلا من المخاطرة بانتظار أن يكتبه عم خيرى بعد انتهائه من مشاريعه الروائية، لأن من السذاجة أن تصدق أن عم خيرى يمكن أن يتوقف عن كتابة الروايات للحظة، دائما تقوده الرواية للأخرى، بل أحيانا كما كتب فى مقدمة روايته (زهرة الخشخاش) يأتى ليكتب الرواية، فتلتصق بها رواية أخرى يضطر لإجراء عملية جراحية لفصلها لكى تصبح رواية مستقلة بذاتها، فهل نقف لنتفرج عليه ساكتين، ونحرم أجيالا كاملة من كنوز خيرى شلبى وغيره من الحكائين العظام».
بالطبع لم يستجب لندائى أحد، وللأسف رحل عم خيرى ورحل كثير من حكاياته معه، ولم نحصل منها إلا على ما سمح به الوقت، رحمه الله رحمة واسعة وألهم زوجته المحبة الوفية الصبر والسلوان، وبارك فى ذريته الطيبة وأعانهم وأعاننا وأعان عشاق الحكى الجميل على فقدان أبيهم العظيم. الفاتحة أمانة والنبى.
0 التعليقات:
إرسال تعليق