في تصريحات للشروق يوم الجمعة الماضي قال وزير المالية ممتاز السعيد إن حكومة قنديل ستستأنف التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض “على أساس البرنامج الاقتصادي الذي سبق وأعدته حكومة الجنزوري خلال محاولاتها السابقة للحصول عليه”. وأضاف الوزير (كان وزيرا في حكومة الجنزوري ونائبا للدكتور حازم الببلاوي في حكومة شرف الثانية) أن مصر ستطلب رفع قيمة القرض من ٣.٢ مليار دولار إلى ٤.٨ مليار دولار حينما تزور مديرة الصندوق كريستين لاجارد القاهرة بعد غد.
ويستقيم موقف السعيد مع تصوراته خلال الشهور الماضية التي قضاها في حكومتي العسكري الثانية والثالثة، قبل أن يصبح هو نفسه صاحب حقيبة المالية في حكومة شكلها مرشح حزب الحرية والعدالة الفائز بالرئاسة. لكن موقفه المنادي بالقرض للتعامل مع عجز الموازنة يتناقض مع موقف الحزب من القرض ذاته، حينما تحركت حكومة الجنزوري في مارس للحصول عليه.
لم يرفض الحزب وقتها القرض “من حيث المبدأ” لكنه وضع شروطا للموافقة عليه. أولها أن تتطرق الحكومة لكل السبل الأخرى، لتعزيز إيراداتها، “بما في ذلك بيع سندات إسلامية «صكوك» لمؤسسات أجنبية، وقطع أرض للمصريين في الخارج، وتقليل الدعم للصناعات كثيفة استهلاك الطاقة”، بحسب القيادي في الحزب سعد الحسيني، ورئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب في تصريح لرويترز بتاريخ التاسع من مارس ٢٠١٢. وأشار النائب في حينه إلى ضرورة وضع الحكومة أولا خطة متكاملة، لمكافحة الفساد والسيطرة على النفقات. ثاني هذه الشروط وفقا لتصريحات صحفية أخرى لأحمد النجار عضو اللجنة الاقتصادية بالحزب هي الشفافية حيث قال يوم ٢٠ مارس إن الحكومة لم تطلع الحزب على أبواب أنفاق القرض الذى طلبتها من البنك الدولي ولم تبين آليات سداده للبرلمان “حيث أكتفت بتقديم مشروع مختصر لم يتجاوز 11 صفحة ولم يتطرق إلى أبواب الإنفاق وآليات السداد”. وينسجم مع هذا الشرط تصريحات لاحقة للمرشح الرئاسي عن الحزب وجماعة الاخوان المهندس خيرت الشاطر يعترض على إقرار حكومة إنتقالية غير منتخبة للقرض من زاوية أن تحميل الأجيال القادمة لعبء جديد يجب أن يتم بطريقة ديمقراطية. وطالب النجار وقتها بضم الصناديق الخاصة للموازنة و تحويل المحطات الكهربائية والمصانع للغاز الطبيعي بدلا من المازوت وهو ما سيوفر مليارات من دعم الطاقة دون وضع أعباء على الفقراء.
هل تغير شيء؟
إذا أعملنا نفس هذه الشروط على المفاوضات المقبلة، التي سترفع قيمة القرض المطلوب سنجد إنه وفق هذه المعايير ليس مقبولا بعد. أولا ليس لدينا تصور تفصيلي واضح عن البرنامج الذي يتم التفاوض حوله. ومازالت المرجعية هي تلك الصفحات ال١١، التي ستخضع لبعض التغييرات في الضرائب وفقا للوزير. وثانيا، فإن شرط الديمقراطية غير مستوف. صحيح أن الرئيس المنتخب هو من عين الحكومة، لكن شرطا أساسيا لقبول أي قرض هو أن يقره نواب الشعب المنتخبون بعد نقاش علني شفاف. وفي هذه اللحظة لا يوجد مجلس شعب والسلطة التشريعية في يد الرئيس وحده مما لا يسمح بهذا الجدل الديمقراطي العلني الأوسع.
وكما كان القرض في عهد المجلس العسكري يثير أسئلة عن الديمقراطية وسيادة الشعب على قراراته فيما يتعلق بسياسته الاقتصادية، مازال الوضع الحالي يطرحها: أولا كيف يطلع الصندوق ومسئولوه على البرناج التفصيلي بل ويكون لهم رأي فيه والمصريون مازالوا لا يعلمونه؟ ثانيا، هل هناك شروط؟ يطمئننا الجميع أنه لا شروط وكأن صندوق النقد صار الملاك المنقذ للثورة المصرية. طيب..إذا قبلنا ذلك. ماذا تعني مراجعة الصندوق لبرنامج الحكومة الذي لانعرفه؟ وأي مصالح يمثلها الصندوق إذا كانت لا توجد سياسات اقتصادية علمية بالمعنى النهائي. السياسة الاقتصادية المناسبة لمصالح الفلاحين قد تتعارض مع مصالح الموظفين مثلا. ثالثا، ماذا يحدث لو قررت الحكومة ومجلس الشعب المنتخب الجديد تغيير توجهات البرنامج الاقتصادي العام القادم تمثيلا لتوجهات الناخبين وأغلبيتهم الديمقراطية؟ هل سيتوجب على مصر أن تحصل على موافقة الصندوق على التغييرات؟ وماذا يحدث لو تعارض موقفه مع موقف مؤسساتنا الوطنية الديمقراطية؟
أما الأهم فهو أن حكومة الرئيس لم تقدم لنا أي تصورات أو خطط أو إجراءات “تطرق البدائل الأخرى المحلية للقرض”، كما طالب الحسيني عن حق. ولم يتم تنفيذ أي من الإجراءات التي أشار إليها النجار ولم تنجح دعوة مصريي الخارج لشراء الأراضي. بل إن الموازنة التي أعدها السعيد، ومازالت سارية دون تعديل، تخفض دعم الطاقة ب ٢٥ مليار جنيه في خطوة واحدة، لن تعفي الفقراء من آثارها.
حل كسول ومريح
كان موضوع الاقتراض من الصندوق هو أول بند تتحفنا به كل الحكومات منذ قامت الثورة كحل لا مناص منه وإلا انهار الاقتصاد. وهاقد مرت سنة ونصف ولم ينهر رغم آن هذه الحكومات لم تتخذ أي إجراءات أخرى من تلك التي كانت واجبة: إعادة النظر في الضرائب وفي أوجه الإنفاق في الموازنة لتحقيق الرشادة الاقتصادية والعدالة في التوزيع (على سبيل المثال مازال ساكن صفط اللبن يدعم الوقود الذي يستخدمه أثرياء الجونة في يخوتهم، وأطباق شرائح الستيك المستورد التي يأكلها رواد الفورسيزونز حتى هذه اللحظة).
يبرر المؤيدون لقرض الصندوق الاعتماد عليه من منطلقين رئيسيين: الأول، هو أنه سيعطي شهادة من المؤسسة الدولية بأن اقتصادنا على مايرام، مما يشجع الاستثمار الأجنبي ويطمئن الشركات العالمية ويقلل نفقة اقتراض الدولة لسد عجز الموازنة. وقد يكون هذا صحيحا وضروريا لكن بفرض واحد هو أن الحل لاقتصادنا ليس قائما على إصلاح تشوهاته الداخلية أو الاعتماد على خطة وطنية واسعة لاعمال العدالة الاجتماعية والتعامل مع الفقر بما يدفع قدرات البلد الإنتاجية، ولا على استراتيجية تنمية متكاملة في التصنيع والزراعة وغيرها، ولا على استغلال كفء ورشيد وديمقراطي يستهدف مصالح الأغلبية لموارد البلد. لكن كما كان الأمر عليه في حكومة الجنزوري وشرف وقبلهما نظيف: جذب الاستثمار الأجنبي وأولوية النمو الاقتصادي ودعم القطاع الخاص كمحركات للاقتصاد، وإن كان هذه المرة "دون فساد". ولقد كان بيد أصحاب الأمر أن يحصلوا على الإشارة الإيجابية في ٢٠١١ بإقرار الصندوق لبرنامج د. سمير رضوان (كان يتضمن ضرائب تصاعية ورفع أجور وفرض جمارك وإجراءات غير مطروحة الآن) حتى دون الحصول على القرض. إذ أن الاتفاق بعد توقيعه يعطي مصر الحق في المال ولا يلزمها بتلقيه. لكن طبقة الحكم، المستمرة معنا للحظة، حرصت على إيقافه ربما بسبب هذه الإجراءات الإصلاحية القليلة، التي قبلها الصندوق وقتها تحت أثر زخم الثورة.
هذا الاعتماد على جذب معونات ومساعدات “مجانية”، وذات طابع “تضامني” يعبر عن أممية عاشقة لثورة مصر هو تصور ساذج اقتصاديا وسياسيا. بل لا مجال له أصلا. العالم يمر بأزمة اقتصادية طاحنة تكاد تدمر الرأسمالية وبالتالي فتوقع أن يخرج أوباما أو أولاند أو كاميرون مالا من جيب دافع الضرائب ليمول به فقراء أبشواى ونجع حمادي، دون عائد سياسي أو مقابل استراتيجي هو نكتة. وحتى لو خرجت هذه الأموال، ويلفت النظر هنا الاصطفاف الهائل الذي رتبته الولايات المتحدة وراء الصندوق إذ هو شرط لأي مساعدات أو تدخل أو اتفاقات مع كل الأطراف، فألا يعني ذلك أنها توقف كل مجاري الدعم إلى أن تقر هي، وهي صاحبة النفوذ الأكبر المثبت في الصندوق، برنامج ثورتنا الاقتصادي؟ السياسة ليست بعيدة على الإطلاق عن الاقتصاد هنا.
أما المبرر الثاني فهو أكثر كارثية: سد عجز الموازنة. فمن المعروف أن الاقتراض قد يحل مشكلة آنية لكنه يرفع الدين العام. وهنا تتناقض حكومة قنديل ومن يقرون القرض مع أنفسهم. فهم حينما يخاطبون الفقراء والمطالبين برفع الأجور يصرخون تحذيرا من عجز الموازنة وضرورة وقف الاقراض، وتخفض الموازنة الجديدة العجز المتوقع بأكثر من ١٪ على حساب الاستثمارات الحكومية وخلق الوظائف والانفاق على الصحة والتعليم. لكنها تصبح سلسة ومرحبة حينما يكون الاقتراض من الصندوق، متناسية أنك في هذه الحالة أيضا ستضطر للسداد في المستقبل (يحتمل بفائدة أقل لكن بكلفة اقتصادية وسياسية أعلى). فماذا عن العام القادم؟ كيف ستتعامل مصر مع مشكلة نقص الموارد ومع تشوهات الموازنة وانحيازاتها ضد الفقراء؟
الاقتراض من الصندوق هنا هو الحل السهل الكسول ومهرب سياسي يضمن استمرار مصالح نخبة الحكم الاقتصادية التي تصيغ حاليا عهود تصالحها مع نخب الحكم السياسية الجديدة. هو الحل الذي يتفادي مراجعة جذرية للسياسات الفاشلة التي جوعت أطفالنا وحرمتهم من التعليم ومن الصحة وفتحت أبواب الفساد هيكليا ونزحت ثروة البلاد ليد لا تستحقها، ووضعت مصائرنا في يد السوق العالمية.
لهذا يجب رفض قرض الصندوق الذي يجيء على مباديء الجنزوري ونظيف والمجلس العسكري وحكام الرزق القابعين خلف الستائر. ومن وراءهم الولايات المتحدة ومؤسساتها المالية الدولية وشركاتها الكبرى النهمة لاقتناص ما تبقى من ثروتنا.
انطلاقا من مباديء وشروط الحرية والعدالة في مارس الماضي، لا لقرض الصندوق . لا لقرض الصندوق ليكون اقتصادنا على مباديء الثورة ومصالح الشعب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق