الإسلام اليوم
لا نزاع في أن إسرائيل تريد أن تجعل القرن الأول من الألفيَّة الثالثة هو عصر التسلُّط الإسرائيلي على المنطقة، فقد سبق أن أُطلق القرن على العصر الأمريكي الذي بشَّر به المحافظون الجُدُد بعد اختفاء الاتحاد السوفيتي، وأرادوا تعزيز السطوة الأمريكيَّة بأحداث سبتمبر ضد العالم الإسلامي، ما دام الإسلام وملحقاته هو العدو الذي خلف الاتحاد السوفيتي في دائرة الاستهداف الغربي، وقد تَمَّ توظيف العرب والمسلمين في غفلتِهم للقضاء على الاتحاد السوفيتي وبزوغ القرن الأمريكي.
وقد ظهرتْ علامات القَرْن الإسرائيلي منذ أحداث سبتمبر الذي يبدو بشكل جدي أن شارون وبوش كانا على علاقة وثيقة بها، بحيث مكَّنَت لواشنطن الانطلاق بالحملة العالميَّة لمكافحة الإرهاب كما تفهمه واشنطن، وبما يتَّفِق مع متطلِّبات القرن الإسرائيلي وهيمنة الدولة العبريَّة في المنطقة العربيَّة وكل المناطق الأخرى التي تمكِّن لها في هذه المنطقة.
ويضيق المقام عن رصْد كل مظاهر بزوغ القَرْن الإسرائيلي، لكن مظاهره واضحة في الساحة الفلسطينيَّة، وفي إخضاع المنطقة العربيَّة، وفي القرار السياسي والأمريكي والأوروبي.
وقد عادتْ إسرائيل مرةً أخرى للعَزْف على أسطورة العداء للساميَّة في ثوب جديد ومتجدِّد، فقد استخدمت العداء للساميَّة في القرن التاسع عشر بمعنى العداء لليهود؛ لكي ينطلقَ المشروع الصهيوني في ثوبِه النهائي، ولما تطوَّرت السياسات الدوليَّة طُوردت الحركة الصهيونيَّة في العالم كلِّه، بل وتَمَّ تجريمها في قرار الجمعيَّة العامة الشهير عام 1975م، وبعد ذلك بأحد عشر عامًا وبعد تغير البيئة العربيَّة والدوليَّة وانتهاء الحرب الباردة وبداية العزف على سيمفونيَّة جديدة اسمها عملية السلام، تمكَّنَت واشنطن وإسرائيل من استصدار قرار جديد ينهي تجريم الصهيونيَّة باعتبارها من جرائم العنصريَّة في القانون الدولي، رغم أن كل مقوِّمات الصهيونيَّة التي استدعتْ تجريمها قد تكرَّست على الأرض بكلِّ مشاهد العنصريَّة الصهيونيَّة والغَصْب والإبادة والتنكيل، بل أصبحت العنصريَّة بالنسبة لها بالغة التواضع؛ بحيث يجب أن تصبح الصهيونيَّة هي رمز كل المعاني البشعة بما في ذلك الممارسات العنصريَّة؛ لأن العنصريَّة تعني فقط الاستعلاء بالعنصر على العناصر والأجناس الأخرى.
ولكنَّ الصهيونيَّة تجمعُ إلى ذلك العَزْم على الحلول محلّ الطرف الأدنى والأضعف، وهو العِرْق العربي الفلسطيني، ولذلك من الخطأ أن نَصفَ تشريعات الكنيست الهادفة إلى طَرْد الفلسطينيين الأُصلاء الذين قامت إسرائيل حول منازلهم أو إلى طَرْد فلسطينيي القدس بأنها تشريعات عنصريَّة أو حتى استعماريَّة؛ لأن الاستعمار لم يدع ملكيَّة أراضي المستعمرات.
وأهم ركائز القَرْن الإسرائيلي هو إخضاع النُّظُم العربيَّة المؤثِّرة لشعوبها فيُحدث انسحابها أمام المشروع الصهيوني صدامًا بين هذه النُّظُم وبين الشعوب، وهو ما نَرَاه كل يوم في ساحات عربيَّة ظاهرة، وعلى أية حال فإن القرن الإسرائيلي واستناده إلى الأوهام والخرافات التي فصلها الأستاذ روجيه جارودي تحتاج إلى دراسات أعمق.
لكن يهمنا أحدث مفهوم ظهر لمعاداة الساميَّة، فليس صدفةً أن معاداة الساميَّة ظهرتْ في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر؛ حيث ظهر المفهوم المتطوِّر في فرنسا أيضًا في الأسبوع الثالث من أكتوبر 2010م عندما تَمَّ استدعاء عضو مجلس الشيوخ من أصلٍ عربي إلى القضاء لمحاكمتها بتُهمَة معاداة الساميَّة والحض على العنف والكراهية العنصريَّة؛ لمجرد أنها انتقدت وحشيَّة إسرائيل ضد النشطاء المدنيين في أسطول الحريَّة، معنى ذلك أن جرائم إسرائيل التي سجَّلَتها التقارير والتحقيقات الدوليَّة هي بطولات ضدّ الأعداء في نظر الادِّعاء الفرنسي، وأن القضاء مهمتُه ليس تعريف معاداة الساميَّة والأفعال التي تكوِّن هذه الجريمة، ولكنه سوف يعمد إلى بحث مدى توفُّر القَصْد الجنائي في سياق حريَّة التعبير عن رأيها في سلوك إسرائيل.
هذه الحادثة تعني أن أوروبا لم تعُدْ تعتبر هولوكوست غزة جريمة من الناحية السياسيَّة، على خلاف القضاء الأوروبي الذي اعتمد على تقرير جولدستون وأوصافه القانونيَّة للسلوك الإسرائيلي لملاحقة المجرمين الإسرائيليين، ولذلك اتَّجه الجهد لإفلات هؤلاء ليس عن طريق المنازعة في الطابع الإجرامي للعمل، أو في نسبة الفعل إلى الفاعل، وإنما بتوفير الإفلات الإجرائي عن طريق التشريع.
بعبارة أخرى عمدتْ بعض البرلمانات في إسبانيا وبلجيكا وغيرهما إلى تفريغ مبدأ الاختصاص العالمي للقضاء الوطني في جرائم النظام العام الدولي من مضامينه الحقيقيَّة، رغم أن مبدأ الاختصاص العالمي اخترعته الأوساط الصهيونيَّة وتوسَّعت فيه توسعًا فريدًا فصلتْه محكمة تل أبيب التي حاكمت إيخمان عام 1961- 1962م، فقرَّرَت المحكمة أنها مختصَّة بالمحاكمة، رغم أن المتَّهَم غير يهودي أو "إسرائيلي"، ورغم أن المحرقة وقعت قبل قيام الكيان الصهيوني؛ لأن الكيان الصهيوني هو وكيل الدم عن كل اليهود في كلِّ العصور وفي كل مكان، ورغم أن المتَّهَم تم الإتيان به عن طريق الخطف من الأرجنتين؛ حيث كان قد فرَّ عقب أحداث المحرقة من ألمانيا ضمن آلاف إلى بلاد أمريكا اللاتينيَّة.
ومن الواضح أن مصادرة الحق في الحريَّة والبحث بشأن كل ما يتعلَّق بالمحرقة اليهوديَّة في ألمانيا تستندُ إلى قانون يسود أوروبا، وأن المتَّهَم بانتهاك هذا القانون هو متهم أيضًا بمعاداة الساميَّة، ولكن الجديد أن ما حدث في فرنسا يعني أن أعضاء مجلس الشيوخ لا حصانة لهم، ولا حقّ لهم في إبداء الرأي، وللقضاء اختصاص محاكمتهم؛ لأن هؤلاء الأعضاء هم الأخطر في التجرُّؤ على جرائم الكيان الصهيوني.
يُضاف إلى ذلك أن القضاء الفرنسي لم يُختبرْ بعد في قضيَّة يكون موضوعها جرائم الكيان الصهيوني في غزَّة أو ضدّ أسطول الحريَّة أو ضدّ شهداء المقاومة، وهذه فيما يبدو طوائف ثلاث في المنظور القانوني الصهيوني الذي يريد الكيان الصهيوني فرضه على القضاء الأوروبي، وهي مرحلة متقدِّمة من مراحل تطوُّر بزوغ القرن الإسرائيلي، فلا شك أن تنظر إلى ضحايا غزة على أنهم يستحقون الإبادة؛ لأنهم لم ينكروا منظمة حماس وهم الذين صوَّتوا لها في انتخابات يناير 2006م، كما أنها ترى أهل غزة محتلين لوطن يهودي، ومن باب أولى يرى الكيان الصهيوني أن المقاومة إرهاب مركَّب، اعتداء على "إسرائيل"، يُضاف إلى أن الوجود الفلسطيني هو غصْب مستمرّ لحق اليهود في الأرض.
وكما قَبِل العالم أن تكون هي وكيل الدم لكل اليهود، فقد قَبِل العالم أيضًا فيما يبدو حق الكيان في إبادة غزة واغتيال زعماء المقاومة مثلما استكان إلى النظريَّة الصهيونيَّة بأن أسطول الحريَّة يهدف إلى دَعْم "الإرهاب" في غزَّة ضد خطط إبادتهم من جانب إسرائيل، ولذلك هنَّأ أوباما أبو مازن بعد أن قتلت سلطات الأمن في الضفة اثنين من المطلوبين من حماس، في إطار التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل.
وأخيرًا، يجب التساؤل عن موقف القضاء الأوروبي والأمريكي من قانون مناهضة أعداء الساميَّة الذي يفسِّر معنى معاداة الساميَّة بأنه أي اعتراض على سياسات "إسرائيل" بما في ذلك مذابحها ضدّ الفلسطينيين، وهل يدين القضاء الفرنسي السيدة عضو مجلس الشيوخ وفق قانون جيسو الفرنسي الصادر عام 1992م؟ أم سوف يعتبر القضاء الفرنسي أن القانون الأمريكي لمعاداة الساميَّة -الذي ألزم الإدارة الأمريكيَّة بتسويقِه عالميًّا- جزءٌ من القانون العالمي الذي يعاقب كل من يتجرَّأ على نَقْد السياسات الإسرائيليَّة، وتلك أبلغ الإشارات إلى بزوغ القرن الإسرائيلي.
غير أن المشكلة ليست في بزوغ قرن معيَّن بقدر أثر هذا البزوغ على قِيَم الحق والعدل والقانون في العلاقات الدوليَّة، لقد سادَ العالم إمبراطوريَّات كبرى عبر التاريخ، ولكن هذه القِيَم كانت سائدةً إلى حدٍّ ما وفقًا للمصادر الأخلاقيَّة للدولة التي هيمنت على العالم، ورغم ذلك فإن هشاشة المشروع الصهيوني وقابليته للكسر والاندثار تعتمد على قوَّة الإطار العربي الذي سوف يتحدَّى القرن الإسرائيلي، وهذه الطبيعة الخاصَّة للمشروع الصهيوني هي التي تجعل الحديث عن مستقبلِه -وليس مستقبل السلام- هو الأقرب إلى منطق الأمور.
0 التعليقات:
إرسال تعليق