قدرات هذا النظام علي المراوغة والتحايل وإخفاء الحقائق وتحذير الناس لا حدود لها.. فوسط انفجار قنابل و كوارث تلوث مياه الشرب والري بمياه المجاري خرج علينا رئيس الوزراء ليعلن معجزة أن مياه الشرب في مصر مطابقة للمواصفات، وأن مصر بين الدول النامية الأكثر تقدما بمعايير الجودة في مياه الشرب والمتاحة لها في أنحاء الجمهورية!! لم يقل رئيس الوزراء ما أسماء هذه الدول
وماذا لديها أسوأ من مياه الشرب المخلوطة بالصرف الصحي أو مياه المجاري لري الزرع؟!.. إلا إذا كان رئيس الوزراء قد اكتشف مصدرا للمياه في مصر غير النيل أو يتحدث عن المياه المعدنية التي يشربها سيادته وجميع القادرين، وفي الأغلب والأفضل المعدنية المستوردة باعتبار أن الكثير من المياه المعدنية المحلية غير مطابقة للمواصفات التي تنطبق الآن وفق تصريحاته علي مياه الحنفيات والطلمبات الحبشية والجراكن وعربات توزيع المياه في المناطق التي لم تدخلها أصلا.. أو أنه يتحدث عن نهر آخر غير النهر الذي سمحوا بتلويثه وإهانته، بعدم تطبيق القوانين أو بنص القوانين وأخطرها قانون يوسف والي الذي يسمح بخلط الصرف الصحي بمياه النيل وحيث تصب سنويا 12.2 مليار متر مكعب من مياه الصرف الزراعي محملة بالبقايا السامة والمسرطنة للمخصبات والأسمدة علاوة علي 1.2 مليون طن مخلفات من السموم من مصانع شبرا الخيمة وحدها.. المنطقة التي تمثل مصدر مياه الشرب للقاهرة الكبري هذه الكميات من التلوث التي قضت علي قدرة محطات المعالجة علي تخليص المياه من المواد الخطرة والمسرطنة، كما تقرر دراسات رسمية، أيضا يبدو أن رئيس الوزراء صاحب معجزة الانتهاء من تغطية مصر بمياه شرب مطابقة للمواصفات بل الأكثر تقدما في معايير الجودة لم يقرأ أوراق ورشة العمل التي صدرت عن المجلس القومي لحقوق الإنسان حول أزمة المياه وجاء فيها ص118.
38 مليون مصري يشربون مياه الصرف الصحي التي تؤدي ما تحتوي عليه من مواد إلي انتشار الأمراض بين المواطنين مثل الكبد الوبائي - الإسهال الفيروسي - الكواليرا - البلهارسيا البولية والمعدية - الدوسنتاريا الأميبية والطفيليات المعدية.
76% من مياه القري مخلوطة بالصرف الصحي.
25% من مرضي المستشفيات بسبب تلوث مياه الشرب.
ينتج مرفق مياه القاهرة 6 ملايين م3 من المياه يوميا تتكلف 3 ملايين جنيه يوميا وتكلف الدولة مليار جنيه سنويا وهذه المياه غير صالحة للاستخدام الآدمي.
وص116 يعلن التقرير أن حوالي 12% من سكان المدن يعيشون في الأحياء العشوائية الفقيرة دون مصادر نقية للمياه.
أوراق ورشة العمل التي جاءت بها هذه الأرقام صدرت يناير 2008، بينما أعلن رئيس الوزراء معجزة تغطية مصر كلها بالمياه المطابقة للمواصفات في أغسطس 2009!! نموذج متكامل لمعجزة أو كارثة إدارة وطن بالمخادعة و الأكاذيب الوردية للهروب من المسئولية والحساب وإجراء المعالجات الجادة التي تقلل من آثار جرائم التلوث وسياسات الإبادة التي يعيش تحتها المصريون الآن والتي ينضم إليها ما أعلنه وزير الري. د. نصر الدين علام في حفل الإفطار الذي أقامته الوزارة منذ أيام متحدثا عما كان لهذه الوزارة من مكانة سيادية تستمدها من الارتباط بأخطر ما في حياة الناس وكيف كان يرصد لها أكبر ميزانية في الدولة وكيف تقلصت ميزانيتها السنوية الآن حتي لم تعد تكفي القيام بأعمال الصيانة للمشروعات المائية.
مالم يقله الوزير أن ميزانيات الأمن والشرطة وإرهاب المواطن أصبحت أكبر من أمن وتأمين وسلامة المياه والغذاء وحياة الإنسان!! لكن من أجل إخفاء وقع الكوارث المائية والغذائية وإمعانا في تحذير الناس المخدرين أصلا بالعوادم والمترسبات والرصاص ومسلسلات التليفزيون وقمار برامج المسابقات أعلنوا إضافة 9 مليارات جنيه إلي أربعة مليارات كانت كل المقرر للاستثمارات المائية.. وهذا الرقم الهزيل أمام حجم المأساة يفرض فتح ملف ما أنفق من ديون ودعم وقروض علي البنية الأساسية التي تحولت إلي أهم إنجاز في تاريخنا الحديث أو المشروع القومي الذي ينافس مشروع الفساد أو المشروع الذي يجسد ويقدم أتعس دليل علي تحول الفساد إلي مشروع قومي أوحد!
ففي قصيدة نثرية عصماء بعنوان حقائق لم يذكرها الرئيس يكتب في صحيفة أخبار اليوم أحد خالدي الذكر فيما وصلت إليه أوضاع مصر، رئيس الوزراء الأسبق عاطف عبيد - متحدثا عما ينتشر في مصر الآن من اطمئنان - غياب وعي المسئولين السابقين والحاليين عن حقيقة الأوضاع لايبدو مدهشا وغريبا فالاطمئنان وبحور النعيم التي يسبحون فيها يظنون أنها تغطي مصر كلها مثل مياه د. نظيف النقية، والمستوفية لشروط الجودة، دعونا الآن من بحور النعيم لنبقي في بحور الصرف الصحي والمجاري ونواصل قراءة ما كتبه رئيس الوزراء الأسبق الذي أرجع الاطمئنان وبقية قاموس أمان ياللي أمان إلي أن مصر استطاعت أن تجدد مرافقها وتتوسع في قدرتها علي تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين وأن الرئيس مبارك من خلال رصيد الثقة والاحترام الذي اكتسبه لدي دول العالم حصل لمصر علي مساعدات لا ترد قدرها 92.6 بليون دولار تعادل 370.4 بليون جنيه من أهم مصادرها المعونات الأمريكية، بالإضافة إلي ما جاء عبر مبادرات الدول العربية الصديقة وعلي رأسها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات المتحدة ودولة الكويت وسلطنة عمان والجماهيرية العربية الليبية، دعنا الآن من مصيبة تباهي المسئولين بمد اليد ودون إشارة واحدة إلي عوائد تنمية قومية ونهضة صناعية وزراعية! وإذا كانت كل هذه البلايين الأمريكية والأوروبية والعربية أوصلتنا إلي المياه المخلوطة بالصرف الصحي والزراعة بمياه المجاري فماذا ستفعل 9 مليارات جنيه يتيمة إن لم يتكالب عليها اللئام كما تكالبوا علي البلايين سيبددها الفساد الذي ثبت بتقارير رسمية في مقدمتها تقارير الجهاز المركزي عن الملايين التي أهدرت وضاعت في مشروعات الشرب وشبكاته وشبكات ومشروعات الري وبعد أن اتضح أن كارثة الري بمياه المجاري يشمل أغلب محافظات المحروسة ومن أقصي شمالها إلي جنوبها في أسوان.. وبعد أن فضحت شبكة مياه البرادعة الحقيقية أوضاع شبكات المياه القديمة والحديثة.
هذه خلاصة وقائع إدارة أهم مرفق للحياة في مصر، وكيف ضيعت وأهدرت البلايين ودمرت المشروعات وكيف يطلقون التصريحات الوردية وقنابل الدخان لعلاج الوقائع الدامية التي تدمر أمن واستقرار وصحة وحاضر ومستقبل شعب وتهدده وأرضه وزرعه وحيوانه بالإبادة، هل يوجد نموذج أنفس لفساد إدارة أمة من هذا النموذج.. هل توجد جريمة أبشع من تحويل أهم مصدر لحياة كل كائن حي إلي مصدر للهلاك؟! هل توجد وسيلة مؤكدة لإفقار أمة في صحة وعافية وقدرة أبنائها علي العمل والإنتاج والإبداع.. وفي إفقار أرضهم ومياههم وجميع مصادر ثرواتهم الطبيعية.. وفي إفقارهم وحرمانهم من الإنقاذ الذي يستطيع أن يحققه علم ومناهج ودراسات علمائهم.. هل توجد وسائل مؤكدة لإفقار وإضعاف أمة من الأمم أكثر مما يحدث في مصر الآن؟!
يحفظ التاريخ المصري القديم للحكيم إيبور ما كتبه في نص درامي متخيل وضعه علي لسان الأعداء يصفون فيه الأسباب التي سهلت لهم غزو مصر ونشر الفساد بعد عصور التقدم والازدهار:«لقد هزمناهم.. وأنسيناهم عقيدتهم وأفقرناهم في زرعهم وفي حرفهم وفي علمهم..». هل يختلف الأمر عن المفعول بالمصريين الآن.. وهل يختلف عما حدث ويحدث دائما في عصور الانهيارات والانكسارات، حيث أدرك الفلاح المصري القديم في شكاواه أن الفساد أساس البلاء ووردت في شكاوي الفلاح الفصيح لأول مرة في تاريخ الإنسانية كلمة فساد وهو يرفع مظلمته إلي الحاكم.
إن من يقلع وفي سفينته الغش والفساد فلن ترسو سفينته علي الأرض ولن تربط مراسيها في الميناء.
مصر الآن سفينة تفككت وتوقفت محركاتها في مهب عواصف وجبال أمواج الفساد.. والهزيمة الحقيقية لم تعد في ميادين القتال التقليدية، وربما يكون انتصار جيشنا العظيم 73 آخر حلقات هذه الحروب، استبدلت هذه الحروب بالحروب البيولوجية ومعاركها التي تنفجر أسلحة إبادتها الشاملة داخل الأحشاء وتسري في الدماء وتخترق الأكباد والكي بالأورام وتأخذ في طريقها العقول والضمائر وتطبعها بصناعة منظمة لثقافة الفساد.. والهزيمة ليست في العقائد الإيمانية وحدها ولكن في عقائد العمل والإتقان والقدرة الذاتية.. والهزيمة بإهانة وإهدار الثروات البشرية والطبيعية بتلويث الأرض والزرع والمياه وانهيار المقاومة الذاتية في إدراك الحقوق الأصيلة في الحياة والقبول بهوان الاستذلال والإضعاف والإفقار كأنه قدر الله!! وليس إرادة وإدارة نظام يواصل بيع الأوهام حتي والمواطن يخوض في بحور المجاري ويشرب مياه الصرف وعليه أن يصدق مياها نقية مطابقة للمواصفات.
وإذا كانت هذه إرادة نظام فأين إرادة أمناء وعلماء هذه الأمة التي تمتلئ بقاعدة محترمة منهم.. أين المشروع الحضاري للإنقاذ في جميع مجالات الحياة؟.. المشروع الذي يستطيع أن يكون بديلا عندما تتساقط أشجار الفساد التي أدرك المصري القديم في مأثوراته وأقوال حكمائه أنها أشجار مهما طال وقوفها فوق الأرض فهي بلا جذور وإلي زوال.. أين المشروع العلمي لإنقاذ الأرض والزرع والمياه والحيوان، أين المشروع العلمي لزراعة أقماحنا وإيقاف أو تخفيض مهازل الاستيراد، أين المشروع العلمي لاسترداد النهضة الصناعية والزراعية وتحديث الزراعة؟!. أقدم أسئلتي وأنا أعرف إجاباتها من خلال مئات ما قدمت من نماذج لفكر ومشروعات ومناهج وأبحاث محترمة دمرت ودمر أصحابها وتحولوا إلي مطاريد في بلدهم.. إنهم وعلمهم ومشروعاتهم.. إنهم الخبيئة التي حرص المصري القديم أن يجهزها في أزمنة الانكسار والانهيار لتكون من مقومات التحرير والإحياء.. وليدرك المصريون وسط أخطر وباء ينتشر بينهم الآن وهو اليأس والإحباط أن لديهم مشروعا حضاريا متكاملا حاضرا للإنقاذ وأن بلدهم لن تذهب إلي فراغ بل ستملأ الفراغ الذي يعانون منه منذ سنوات والإصرار علي انتخابات محررة من التزوير وبالأرقام القومية وبإشراف لجنة قومية مستقلة تراقب جميع مراحل الانتخابات وتطبيق تجربة الهند العظيمة في الديمقراطية الرقمية التي تغلبت حتي علي الأمية وأغلقت جميع بوابات الأخطاء والتلاعب والتزوير وجعلت الهند من أوائل الديمقراطيات المحترمة في العالم، وبدأت القوي الوطنية والعلماء والخبراء في إعداد خطط المشروع الحضاري لإعادة بعث مصر في مواجهة المشروع الرسمي للإبادة والتدمير والإفقار، وليجد السؤال الحائر علي ألسنة أغلب المصريين.. وماذا بعد كل هذه المصائب والكوارث والفساد؟! وماذا سيتبقي من مصر بعد مرحلة النهب العظيم؟!
0 التعليقات:
إرسال تعليق