عام على رحيل أمير المهمشين "خيري شلبي". تحول الصعاليك والشطار
والغجر والنَور وأولاد الليل وأهل الكيف في قصصه إلى بشر من لحم ودم، لهم أصل
وفصل، وراء كل واحد منهم قصة تستحق ان تروى، يمتلكون قلوباً ومشاعر يبثونها في
مواويل تحكي آلامهم وصراعاتهم مع الحياة.
أبطال حكاياته ليسوا مجرد أشخاص منسيين وهامشيين، بل هم مجهولون تماما،
خارجون من عوالم سرية، إذ انتبه الكاتب مبكراً لمصر التي لا نعرفها، للعشوائيات
والدروب الخفية قبل أن تلتقطها كاميرات السينما، رصد بعين ثاقبة ملامح من
يسكنونها، وصنع منظومة اساطير جميلة من وسط قبح تلك البيئات القاسية، كما ظهر في
كثير من أعماله.
«وكالة
عطية»
تمثل رواية «وكالة عطية» محطة مهمة في حياة العم خيري، فالرواية التي صدرت
طبعتها الأولى في عام ،1993 ونال عنها الكاتب جائزتين مهمتين، تلخص ــ إلى حد كبير
ــ سمات ذلك الكاتب، ورأى البعض فيها طرفاً من سيرته الذاتية، فالبطل طالب دفعته
الأقدار إلى التشرّد والصعلكة وهو في السنة الأخيرة من التخرج (معهد المعلمين الذي
تخرج فيه خيري شلبي)، كما أن بطل «وكالة عطية» كاتب قصصي حاول شق طريقه، واجتذبته
حياة المنسيين في الوكالة الذين لهم دنياهم الخاصة، ويحاولون كسب قوتهم بالمباح
حينا، وبغير المباح أحايين أخرى، بل ويسعى بعضهم إلى الانتقام من ذلك العالم متى سنحت
له الفرصة.
يفتح صاحب «وكالة عطية» عين المتلقي على واقع سحري غريب، بين الحقيقة
والأسطورة، فالوكالة (منزل أثري يضم طوابق عدة، ومقسم إلى غرف) مأوى من لا مأوى
لهم، جمهورية لها رئيس يدبر شؤونها، وينتفع بما فيها، فيؤجرها لرعايا من نوع خاص،
شحاذون وتجار مخدرات ومحتالون وأشقياء وفقراء ضاقت بهم منازل مدينة دمنهور
المصرية.
يصل الراوي إلى الوكالة إثر خروجه من سجن قضى وراء أسواره ستة أشهر، بسبب
ضربه مدرساً كان يزدريه، ويشعره بأنه لا يستحق أن يكون من خريجي معهد المعلمين،
لأنه من أبناء الفقراء. بعد خروجه من السجن لا يجد البطل مأوى سوى الشارع، إذ كيف
يعود إلى بيته بعـدما كان منه، يتعرف خلال ذلك التشرد إلى أحد الباعة، ويصطحبه
الأخير إلى «وكالة عطية»، لينغمس في ذلــك العالم الذي بدا مقبضا له في البداية،
إلا انه صار أحد الفاعلين فيه بعد ذلك، ووصلت به الأمور إلى المشاركة في عمليات
الاحتيال التي كان ينفذها بعض سكان الوكالة.
تسلك الرواية مسارات كثيرة، تأخذ قارئها شرقا وغربا، تعرفه إلى أشخاص لم
تترك لهم الحياة منفذا للنجاة، سوى الوكالة، يرسم خيري شلبي شخصيات «وكالة عطية»
بمقدرة كاتب روائي محترف، يسرد ملمحا سريعا، يصدم القارئ، من تلك الشخصية، ويعطي
مساحــة من التشويق، ثم يلجأ بعد ذلك إلى منح تلك الشخصية فرصة للخلاص والتطهر عبر
الفضفضة، فإذا الشخصية إنسان له جوانب عدة، ولم يخلق في هذا العالم شريرا، بل صنعت
له المصائب الحياتية ذلك القناع، وألبسته إياه رغما عنه في بعض الأحيان.
ولأن خيري شلبي كاتب يمتلك كنزاً من التراث المصري، وصاحب ذاكرة تختزن
الكثير، فإن مئات الحكايا تنثال بسلاسة في الرواية، وتتنقل في أمكنة وأزمنة
مختلفة، ويرسم الكاتب صورة الوكالة والشوارع التي تجري فيها الأحداث ببراعة، تجتذب
المتلقي إليها، بحيث لا يستشعر مللاً.
بروفايل
ولد خيري شلبي في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ في شمال مصر، في 31 يناير عام
.1938 يعد العم خيري كما كان يحب أن يلقب أحد أبرز كتاب جيل الستينات، واشتهر
بغزارة نتاجه، إذ يزيد عدد الكتب التي ألفها خلال مسيرته الإبداعية على 70 كتابا،
من أشهرها رواية «وكالة عطية»، التي نال عنها جائزة نجيب محفوظ من الجامعة
الأميركية بالقاهرة عام .2003 وحولت الدراما التلفزيونية والسينمائية بعض أعماله
إلى مسلسلات وأفلام.
من أبرز أعماله الروائية «السنيورة»، «الأوباش»، «الشطار»، «الوتد»، «العراوي»،
«فرعان من الصبار»، «موال البيات والنوم»، «ثلاثية الأمالي (أولنا ولد - وثانينا
الكومي - وثالثنا الورق)، «بغلة العرش»، «لحس العتب»، «منامات عم أحمد السماك»،
«موت عباءة»، «بطن البقرة»، «صهاريج اللؤلؤ»، و«نعناع الجناين». وله عدد من
المسرحيات منها «صياد اللولي»، «غنائية سوناتا الأول»، «المخربشين»، و«اسطاسية».
ومن مجموعاته القصصية «صاحب السعادة اللص»، «المنحنى الخطر»، «سارق الفرح»،
«أسباب للكي بالنار»، «الدساس»، «أشياء تخصنا»، و«قداس الشيخ رضوان».
من مؤلفاته ودراساته: «محاكمة طه حسين: تحقيق في قرار النيابة في كتاب
الشعر الجاهلي»، أعيان مصر (وجوه مصرية)، غذاء الملكات (دراسات نقدية)، مراهنات
الصبا (وجوه مصرية)، لطائف اللطائف (دراسة في سيرة الإمام الشعراني)، أبوحيان
التوحيدي (بورتريه لشخصيته)، دراسات في المسرح العربي، عمالقة ظرفاء، فلاح في بلاد
الفرنجة (رحلة روائية)، رحلات الطرشجي الحلوجي، مسرح الأزمة (نجيب سرور).
وفاز خيري شلبي بعدد من الجوائز المصرية والعربية، وحصل على جائزة أفضل
رواية عربية عن رواية «وكالة عطية» عام ،1993 وجائزة الدولة التقديرية في الآداب
عام ،2005 كما رشحته مؤسسة كندية للحصول على جائزة نوبل في الآداب. ووصلت روايته
الأخيرة «اسطاسية» إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر العربية» العام الماضي، ولم
تمهله الأيام لتسطير فصول سيرته الذاتية التي كتب جزأها الأول في «أنس الحبايب».
0 التعليقات:
إرسال تعليق